الأزمة التى تعيشها الجغرافيا فى عالمنا العربى حاليا ليست نابعة أساسا من موقع قسم الجغرافيا بين كليات الجامعة، كما أن ظهور نظم المعلومات الجغرافية لا ينبغى إتخاذه مبررا للبحث فى نقل القسم من كلية لأخرى.
العبرة تكمن فى أين يقف البحث الجغرافى فى عالمنا العربى اليوم؟ هو يقف: عند الجغرافيا الإقليمية الوصفية، ويدور فقط حول التوزيعات المكانية المجردة للظاهرة الجغرافية ونتائجها الكمية(جغرافية الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى بالرغم من أنها تستخدم أحدث التقنيات المكانية أحيانا)، ومحاولات متواضعة باستخدام المناهج الوضعية، وإغفال تام للجغرافيا الإنسانية ( مع العلم أنها تستخدم فى الخارج نظم المعلومات الجغرافية ونظام تعيين المواقع من القمر الصناعى فى بعض البحوث)، وعدم التمكن من أدوات التخطيط أو نمذجة ومحاكاة الواقع.
هذا ليس جلدا للذات بقدر ما هو تنويه لأهمية إنفتاحنا على مناهج البحث الجغرافى وأدواته التى لايعرف معظم الجغرافيين فى العالم العربى إلا بعض أسمائها. فلو أثبتنا نحن أهمية تخصصنا واحترمناه فى بلادنا لاحترمته كافة الأجهزة الرسمية وغير الرسمية. إذهبوا لوزارة الخارجية الأمريكية Dept of State وأنظروا كم نسبة الجغرافيين ممن يقومون بعمل البحوث التى تُرسم على أساسها خطط أقسام هذه الوزارة؟، اعلموا ماهى نسبة الجغرافيين من جملة الذين تمول بحوثهم المخابرات المركزية الأمريكية CIA، وما هى نسبة الجغرافيين فى اتحاد المخططين APA، واتحاد نظم المعلومات الجغرافية الحضرية والريفية URISA، والحركات العلمية والشعبية الحديثة مثل مناهضة التمدد الحضرى Anti Sprawl، والنمو الذكى Smart Growth، والنمو الحر New Libral Growth، واللامركزية Anti Statism، وكثير من المنظمات غير الربحية NGOs، والمنظمات الدولية كالبرنامج الإنمائى UNDP، والبنك الدولى وغيرها....الجغرافيون فى هذه الأماكن هم من صنعوا تلك المكانة للجغرافيا ولأنفسهم.
كانت الجغرافيا العربية حتى وقت قريب لا تقبل بحثا فى الخرائط لترقية صاحبها بحجة أن الخريطة مجرد أداة؟؟؟ وأهملنا هذا الجانب حتى أصبح أكثر تأخرا من الجغرافيا، وقفزنا قفزة كبيرة لنظم المعلومات والتقنيات المصاحبة وأصبحنا نستخدمها فى بحوث ذات مناهج قديمة وتخرج خرائطها غير قادرة على تحقيق الاتصال الكارتوجرافى لأننا أهملنا الخرائط ردحا طويلا من الزمن. كذلك إذا قدم جغرافى بحثا فى الصورةالذهنية قيل عنه أنه بحث فى علم النفس، وإذا تقدم ببحث فى استخدام الخريطة أو الأطلس قيل عنه أنه يقدم بحثا فى مناهج وطرق التدريس.
رأيت على هذا الموقع من يتسائل عن مصادر لعمل بحث فى نظم العنونة سنة 2010م (تسمية الشوارع وترقيم العقارات) وقد أردت أنا عمل بحث فى هذا الموضوع فى أول التسعينيات وقيل وقتها أن هذا ليس من الجغرافيا فى شئ ؟؟
أنا أرى أن يتوازى البحث فى نقل أقسام الجغرافيا من كلية لأخرى مع الانفتاح على العلوم الأخرى، والبحث فى تنويع مناهج وموضوعات البحث الجغرافي. فمثلا لماذا لايتقدم أحد الباحثين فى الجيومورفولوجيا بمشروع بحث للدكتوراه فى السياحة الجيومورفولوجية أو الجيولوجيا الطبيعية؟ لقد أتى ذلك بنتائج مذهلة فى السياحة إلى الخانق العظيم Grand Canyon وكثير من المناطق بولايات أمريكا. من البحوث التى لها مردود نفعى وقمت إما بعملها أو أشرفت عليها أو ناقشتها وهى توضح الانفتاح على العلوم الأخرى أو توضح استخدام مناهج حديثة أو لها جانب تطبيقى أو تُنبِه لأهمية البحث الجغرافى للمجتمع: الخريطة المدركة لمدينة جدة، التكيف الهجرى فى مدينة السادات، تخطيط الجبهة المائية لمدينة شبين الكوم على ترعة (بحر) شبين- دلتا النيل، أطلس الأمراض المتوطنة بجازان، التحليل الكارتوجرافى للأطالس التعليمية فى السعودية، التحليل الكارتوجرافى لخرائط السياحة - أمريكية، وعربية، وأجنبية أخرى...، وكذلك التحليل الجغرافى لدلالة أسماء المحلات العمرانية فى منطقة بين جازان وعسير. وبالرغم من استخدام قاعدة بيانات ضخمة فى هذا الموضوع بالذات إلا أن النتيجة ببساطة أكدت كم هى جميلة ومرنة وأصيلة اللغة التى تشرفت بنزول القرآن الكريم.
لماذا لايعيد الجغرافيون العرب توجيه دفة الجغرافيا نحو الحداثة، فبالرغم من التقدم السريع فى الغرب فى التقنيات الجغرافية والإبصار الجغرافى إلا أن الحديث فى فلسفة الجغرافيا لاينقطع فهناك من يتكلم عن جغرافية الإحساس، والعمران الإنسانى، والعمارة المحسوسة، والمكان واللامكان، والشغف بالمكان، والجغرافيا النفسية، والفضاء المختبر، والوجودى، وفضاء الإدراك، والواقعى، والسلوكى. ربما لا تكون هذه الاتجاهات الفلسفية الحديثة قد جائت بنتائج مبهرة ملموسة حتى الآن ولكنها تعبر عن روح الانفتاح على العلوم الأخرى وعدم الكف عن البحث فى الجديد والاتجاه لما بعد الحداثة فى الغرب.
ويجب هنا ألا ننسى: تعرض الجغرافيين فى الغرب للحرج بعد رسوخ نظم المعلومات الجغرافية والتقنيات المصاحبة وبخاصة فى بداية الألفية الجديدة ومن ثم اتجهوا للتركيز تارة على تحسين الأسس النظرية لتعليم الجغرافيا فى مناهج التعليم الرسمى، ولجأوا أحيانا للجانب الإنسانى البحثى من باب علم النفس، وتارة أخرى للنظر مليا والكتابة فى أمور فلسفية، كما لم يتوانى الجغرافيون القدامى والجدد عن الإنخراط فى ESRI والاعتماد على منتجاته وعلى ERDAS.
لهذا كله أرى أنه يجب التحرك فى كل هذه الأشياء مجتمعة: فلسفة، منهج، تقنية، تأهيل الجغرافيين، البحث، وأيضا أين نضع قسم الجغرافيا؟؟؟؟؟